فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال البقاعي:

{أولئك} خطابًا لنبيه واستحضارًا لهم بمحل بعد عن قربه وغيبة عن إقباله عليهم. قال: {عليهم صلوات} صلاة الله على عباده هي إقباله عليهم بعطفه إخراجًا لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور، قال: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [الأحزاب: 43] فبصلاتهم عليهم إخراجهم من جهات ما أوقعهم في وجوه تلك الابتلاءات، فلذلك كان ذلك صلوات بالجمع ولم يكن صلاة ليعدد ما أصابهم منه عدد تلك الابتلاءات، وفي قوله تعالى: {من ربهم} إشعار بتدريجهم في ذلك بحكم تربية وتدارك الأحوال ما أصابهم، قال تعالى: {ورحمة} إفراد لمنالها لهم بعد متقدم الصلوات عليهم، فنالتهم الرحمة جمعًا حين أخرجتهم الصلوات أفرادًا. قال تعالى: {وأولئك} إشارة إلى الذين نالتهم الصلوات والرحمة فأبقاهم مع ذلك في محل بعد في الحضرة وغيبة في الخطاب {هم المهتدون} فجاء بلفظ {هم} إشعارًا بصلاح بواطنهم عما جره الابتلاء من أنفسهم. انتهى.
والذي يلوح لي أن أداة البعد في {أولئك} إشارة إلى علو مقامهم وعز مرامهم، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الاسمية على وجه يفهم الحصر؛ والصلاة الإنعام بما يقتضي التشريف، والرحمة الإنعام بما يقتضي العطف والتَحنّن- والله سبحانه وتعالى الموفق. اهـ.

.قال أبو الليث السمرقندي:

والصلاة من الله تعالى على ثلاثة أشياء: توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب جميعًا، فبالصلاة الواحدة تتكون لهم هذه الأشياء الثلاثة، فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة، ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريمًا لشأنه، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، فلذلك كان من لطائف القرآن إسنادُ البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول، وإسنادُ البِشارة بالخير الآتي من قِبَل الله إلى الرسول. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآيات 142- 143]:

{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}.
{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} الخفاف الأحلام وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة، وأنهم لا يرون النسخ. وقيل: المنافقون، لحرصهم على الطعن والاستهزاء.
وقيل: المشركون، قالوا رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، واللَّه ليرجعن إلى دينهم. فإن قلت: أى فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أنّ مفاجأة المكروه أشدّ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدّمه من توطين النفس، وأنّ الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم {ما وَلَّاهُمْ} ما صرفهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ} وهي بيت المقدس {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أى بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} من أهلها إِلى {صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة، من توجيههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ} ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم {أُمَّةً وَسَطًا} خيارا، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء. ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
ونحوه قوله عليه السلام: «وأنطوا الثبجة» يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء وصفا بالثبج وهو وسط الظهر، إلا أنه الحق تاء التأنيث مراعاة لحق الوصف. وقيل: للخيار: وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأعوار والأوساط محمية محوّطة. ومنه قول الطائي:
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ** بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا

وقد اكتريت بمكة جمل أعرابى للحج فقال: أعطنى من سطاتهنه، أراد من خيار الدنانير.
أو عدولا، لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} روى «أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب اللَّه الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمّة محمد صلى اللَّه عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار اللَّه في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعد التهم» وذلك قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا}. فإن قلت: فهلا قيل لكم شهيدا وشهادته لهم لا عليهم؟
قلت: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له، جيء بكلمة الاستعلاء. ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يزكيكم ويعلم بعدالتكم.
فإن قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدّمت آخرا؟ قلت: لأن الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم {الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} ليست بصفة للقبلة إنما هي ثانى مفعولي جعل. يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، لأنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة فيقول: وما جعلنا القبلة التي تجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أوّلا بمكة، يعنى: وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء {لِنَعْلَمَ} الثابت على الإسلام الصادق فيه، ممن هو على حرف ينكص {عَلى عَقِبَيْهِ} لقلقه فيرتدّ، كقوله: {وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}- الآية ويجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس قبلته. يعنى أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لغرض. وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا- وهي بيت المقدس، لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه. فإن قلت:
كيف قال: {لِنَعْلَمَ} ولم يزل عالما بذلك؟ قلت: معناه: لنعلمه علما يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودًا حاصلا ونحوه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. وقيل: ليعلم رسول اللَّه والمؤمنون.
وإنما أسند علمهم إلى ذاته، لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده.
وقيل: معناه لتميز التابع من الناكص، كما قال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فوضع العلم موضع التمييز لأنّ العلم به يقع التمييز به {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} هي إن المخففة التي تلزمها اللام الفارقة.
والضمير في: {كانت} لما دل عليه قوله: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} من الردّة، أو التحويلة، أو الجعلة. ويجوز أن يكون للقبلة {لَكَبِيرَةً} لثقيلة شاقة {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول الذين لطف اللَّه بهم وكانوا أهلا للطفه.
{وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} أى ثباتكم على الايمان وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم.
ويجوز أن يراد: وما كان اللَّه ليترك تحويلكم لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم. وقيل: من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة. عن ابن عباس رضى اللَّه عنه: لما وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت.
{لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم. ويحكى عن الحجاج أنه قال للحسن: ما رأيك في أبى تراب، فقرأ قوله: {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} ثم قال: وعليٌّ منهم، وهو ابن عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وختنه على ابنته، وأقرب الناس إليه، وأحبهم.
وقرئ: {إلا ليعلم} على البناء للمفعول. ومعنى العلم: المعرفة. ويجوز أن يكون من متضمنة لمعنى الاستفهام معلقا عنها العلم، كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو. وقرأ ابن أبى إسحاق {على عقبيه} بسكون القاف. وقرأ اليزيدي لكبيرة بالرفع. ووجهها أن تكون كان مزيدة، كما في قوله:
وَجِيرَانٍ لَنَا كانُوا كِرَامِ

والأصل: وإن هي لكبيرة، كقولك: إن زيد لمنطلق ثم، وإن كانت لكبيرة وقرئ: {ليضيع} بالتشديد.

.[سورة البقرة: الآيات 144- 145]:

{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}.
{قَدْ نَرى} ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية. كقوله:
قَدْ أتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ

{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل عليه السلام والوحى بالتحويل {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا. إذا جعلته واليًا له، أو فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس {تَرْضاها} تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة اللَّه وحكمته {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} نحوه. قال:
وَأظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ

وقرأ أبيّ: تلقاء المسجد الحرام. وعن البراء بن عازب قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا ثم وجه إلى الكعبة وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمى المسجد مسجد القبلتين.
و{شَطْرَ الْمَسْجِدِ} نصب على الظرف، أى اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أى في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد. وذكر المسجد الحرام دون الكعبة: دليل في أنّ الواجب مراعاة الجهة دون العين {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} أن التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول اللَّه أنه يصلى إلى القبلتين {يَعْمَلُونَ} قرئ بالياء والتاء.
{ما تَبِعُوا} جواب القسم المحذوف سدّ مسدّ جواب الشرط.
{بِكُلِّ آيَةٍ} بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق، {ما تبعوا قِبْلَتَكَ} لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق {وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} حسم لأطماعهم إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. وقرئ {بتابع قبلتهم} على الإضافة {وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعنى أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم، كما لا ترجى موافقتهم لك. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس. أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده.
وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ} بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله وما أنت بتابع قبلتهم كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلا بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك لطف للسامعين وزيادة تحذير. واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى، وتهييج وإلهاب للثبات على الحق. فإن قلت: كيف قال: {وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ قلت: كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.

.[سورة البقرة: الآيات 146- 148]:

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}.
{يَعْرِفُونَهُ} يعرفون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص {كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وعن عمر رضي اللَّه عنه أنه سأل عبد اللَّه بن سلام عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أنا أعلم به منى بابني. قال:
ولم؟ قال: لأنى لست أشك في محمد أنه نبى. فأما ولدى، فلعل والدته خانت، فقبل عمر رأسه.
وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع. ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علمًا معلوما بغير إعلام. وقيل الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة. وقوله: {كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد اللَّه بن سلام. فإن قلت: لم اختص الأبناء؟ قلت: لأنّ الذكور أشهر وأعرف، وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. وقال فَرِيقٌ مِنْهُمْ استثناء لمن آمن منهم، أو لجهالهم الذين قالوا: يقال فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ}.
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدإ محذوف. أى هو الحق. أو مبتدأ خبره {مِنْ رَبِّكَ} وفيه وجهان: أن تكون اللام للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو إلى الحق الذي في قوله: {ليكتمون الحق}. أى: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من اللَّه لا من غيره. يعنى أن الحق ما ثبت أنه من اللَّه كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من اللَّه كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل. فإن قلت: إذا جعلت الحق خبر مبتدإ فما محل من ربك؟
قلت: يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، وأن يكون حالا. وقرأ عليّ رضى اللَّه عنه: الحق من ربك.
على الإبدال من الأوّل، أى يكتمون الحق، {الحق من ربك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم، أو في أنه من ربك {لِكُلٍ} من أهل الأديان المختلفة جْهَةٌ قبلة. وفي قراءة أبيّ: {ولكل قبلة ومُوَلِّيها}.
وجهه، فحذف أحد المفعولين. وقيل هو للَّه تعالى، أى اللَّه موليها إياه. وقرئ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} على الإضافة. والمعنى وكل وجهة اللَّه موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، أى هو مولى تلك الجهة وقد وليها. والمعنى: لكل أمّة قبلة تتوجه إليها، منكم ومن غيركم اسْتَبِقُوا أنتمْ خَيْراتِ واستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره.
ومعنى آخر: وهو أن يراد: ولكل منكم يا أمة محمد وجهة أى جهة يصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية {فاستبقوا الخيرات أيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} للجزاء من موافق ومخالف لا تعجزونه. ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت، أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم اللَّه جميعا يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.